فصل: فصــل في المراد بلفظ الحروف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 ومن قال ذلك لم يعرف حد القديم، وادعى قدم الأعراض وتقطع القديم، وتقطع القديم عرض لا يقوم بقديم، ومن اعتقد أن كلام الله القائم بذاته على حد تلاوة التالي من القطع والوصل، والتقريب والتبعيد والبعدية والقبلية فقد شبه الله بخلقه؛ ولهذا روى في الخبر‏(‏أن موسى سأله بنو إسرائيل‏:‏ كيف سمعت كلام ربك‏؟‏ قال‏:‏ كالرعد الذي لا يترجع‏)‏ يعني‏:‏ ينقطع، لعدم قطع الأنفاس وعدم الأنفاس، والآلات والشفاه /واللهوات، ومن قال غير ذلك وتوهم أن الله تكلم على لسان التالى، أو الكلام الذي قام بذاته على هذه الصفة من التقطيع والوصل، والتقريب والتبعيد ـ فقد حكم به محدثًا؛ لأن الدلالة على حدوث العالم هو الاجتماع والافتراق؛ ولأن هذه من صفات الأدوات‏.‏ ا هـ‏.‏

قلت‏:‏ فهذا الذي قاله ابن عقيل أقل خطأً مما قاله البَرْزَبَيْنِيّ، فإن ذلك مخالف للنص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة؛ فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أن من تكلم في الصلاة بكلام الآدميين عامدًا لغير مصلحتها عالما بالتحريم بطلت صلاته بالإجماع، خلاف ما ذكره القاضي يعقوب، ومتى قصد به التلاوة لم تبطل بالإجماع، وإن قصد به التلاوة والخطاب ففيه نزاع، وظاهر مذهب أحمد‏:‏ لا تبطل، كمذهب الشافعي وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ تبطل، كقول أبي حنيفة وغيره‏.‏

وما ذكروه عن الصحابة حجة عليهم، فإن قول علي بن أبي طالب‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏60‏]‏ هو كلام الله، ولم يقصد علي أن يقول للخارجي‏:‏ ولا يستخفنك الخوارج؛ وإنما قصد أن يسمعه الآية، وأنه عامل بها صابر، لا يستخفه الذين لا يوقنون، وابن مسعود قال لهم وهو بالكوفة‏:‏ ‏{‏ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏99‏]‏، ومعلوم أن مصر ـ بلا تنوين ـ هي مصر المدينة، وهذه لم تكن بالكوفة‏.‏ وابن مسعود إنما كان بالكوفة؛ فعلم أنه قصد تلاوة الآية، وقصد مع /ذلك تنبيه الحاضرين على الدخول‏:‏ فإنهم سمعوا قوله‏:‏‏[‏ادخلوا‏]‏‏.‏ فعلموا أنه أذن لهم في الدخول، وإن كان هو تلا الآية فهذا هذا‏.‏

وأما جواب ابن عقيل فبناه على أصل ابن كُلاَّب الذي يعتقده هو وشيخه وغيرهما، وهو الأصل الذي وافقوا فيه ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري وغيره، وهو أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه ليس فيما يقوم به شيء يكون بمشيئته وقدرته؛ لامتناع قيام الأمور الاختيارية به عندهم؛ لأنها حادثة، والله لا يقوم به حادث عندهم؛ ولهذا تأولوا النصوص المناقضة لهذا الأصل، كقوله تعالى ‏{‏وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏105‏]‏، فإن هذا يقتضي أنه سيرى الأعمال في المستقبل، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏14‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏، وكذلك قوله‏:‏‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏31‏]‏، فإن هذا يقتضى أنه يحبهم بعد اتباع الرسول، وكذلك قوله تعالى‏:‏‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏11‏]‏، فإن هذا يقتضى أنه قال لهم بعد خلق آدم، وكذلك قوله تعالى‏:‏‏{‏فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏11‏]‏ يقتضي أنه نودي لما أتاها، لم يناد قبل ذلك، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏82‏]‏ ومثل هذا في القرآن كثير‏.‏

/ وهذا الأصل هو مما أنكره الإمام أحمد على ابن كلاب وأصحابه، حتى على الحارث المحاسبي مع جلالة قدر الحارث، وأمر أحمد بهجره وهجر الكلابية، وقال‏:‏ احذروا من حارث، الآفة كلها من حارث، فمات الحارث وما صلى عليه إلا نفر قليل بسبب تحذير الإمام أحمد عنه، ومع أن فيه من العلم والدين ما هو أفضل من عامة من وافق ابن كلاب على هذا الأصل، وقد قيل‏:‏ إن الحارث رجع عن ذلك وأقر بأن الله يتكلم بصوت، كما حكى عنه ذلك صاحب ‏[‏التعرف لمذهب التصوف‏]‏ أبو بكر محمد ابن إسحاق الكلاباذي‏.‏

وكثير من المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وافقوا ابن كُلاب على هذا الأصل، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر‏.‏

واختلف كلام ابن عقيل في هذا الأصل، فتارة يقول بقول ابن كُلاب، وتارة يقول بمذهب السلف وأهل الحديث‏:‏ أن الله تقوم به الأمور الاختيارية، ويقول‏:‏ إنه قام به أبصار متجددة حين تجدد المرئيات لم تكن قبل ذلك، وقام به علم بأن كل شيء وجد غير العلم الذي كان أولاً أنه سيوجد، كما دل على ذلك عدة آيات في القرآن، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏143‏]‏ وغير ذلك، وكلامه في هذا الأصل وغيره يختلف، تارة يقول بهذا، وتارة يقول بهذا؛ فإن هذه المواضع مواضع / مشكلة كثر فيها غلط الناس؛ لما فيها من الاشتباه والالتباس‏.‏

والجواب الحق‏:‏ أن كلام الله لا يماثل كلام المخلوقين، كما لا يماثل في شيء من صفاته صفات المخلوقين، وقول القائل‏:‏ إن الاشتراك في الحقيقة لا يدل على الاشتراك في الحدوث لفظ مجمل، فإنا إذا قلنا‏:‏ لله علم ولنا علم، أو له قدرة ولنا قدرة، أو له كلام ولنا كلام، أو تكلم بصوت ونحن نتكلم بصوت، وقلنا‏:‏ صفة الخالق وصفة المخلوق اشتركنا في الحقيقة ـ فإن أريد بذلك أن حقيقتهما واحدة بالعين فهذا مخالف للحس والعقل والشرع، وإن أريد بذلك أن هذه مماثلة لهذه في الحقيقة، و إنما اختلفتا في الصفات العرضيَّة، كما قال ذلك طائفة من أهل الكلام ـ وقد بين فساد ذلك في الكلام على ‏[‏الأربعين‏]‏ للرازي وغير ذلك فهذا أيضًا من أبطل الباطل، وذلك يستلزم أن تكون حقيقة ذات الباري ـ عز وجل ـ مماثلة لحقيقة ذوات المخلوقين‏.‏

وإن أريد بذلك أنهما اشتركا في مسمى العلم والقدرة والكلام فهذا صحيح، كما أنه إذا قيل‏:‏ إنه موجود أو أن له ذاتا فقد اشتركا في مسمى الوجود والذات، لكن هذا المشترك أمر كلي لا يوجد كليًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فليس في الخارج شيء اشترك فيه مخلوقان كاشتراك الجزئيات في كلياتها بخلاف اشتراك الأجزاء في الكل، فإنه يجب الفرق بين قسمة الكلى إلى جزئياته، كقسمة الحيوان إلى / ناطق وغير ناطق، وقسمة الإنسان إلى مسلم وكافر، وقسمة الاسم إلى معرب ومبني، وقسمة الكل إلى أجزائه؛ كقسمة العقار بين الشركاء، وقسمة الكلام إلى اسم وفعل وحرف، ففي الأول إنما اشتركت الأقسام في أمر كلي، فضلا عن أن يكون الخالق والمخلوقون مشتركين في شيء موجود في الخارج، وليس في الخارج صفة لله يماثل بها صفة المخلوق، بل كل ما يوصف به الرب ـ تعالى ـ فهو مخالف بالحد والحقيقة، لما يوصف به المخلوق أعظم مما يخالف المخلوق المخلوق، وإذا كان المخلوق مخالفًا بذاته وصفاته لبعض المخلوقات في الحد والحقيقة، فمخالفة الخالق لكل مخلوق في الحقيقة أعظم من مخالفة أي مخلوق فرض لأي مخلوق فرض، ولكن علمه ثبت له حقيقة العلم، ولقدرته حقيقة القدرة، ولكلامه حقيقة الكلام، كما ثبت لذاته حقيقة الذاتية، ولوجوده حقيقة الوجود، وهو أحق بأن تثبت له صفات الكمال على الحقيقة من كل ما سواه‏.‏

فهذا هو المراد بقولنا‏:‏ علمه يشارك علم المخلوق في الحقيقة، فليس ما يسمع من العباد من أصواتهم مشابهًا ولا مماثلا لما سمعه موسى من صوته، إلا كما يشبه ويماثل غير ذلك من صفاته لصفات المخلوقين، فهذا في نفس تكلمه ـ سبحانه وتعالى ـ بالقرآن، والقرآن عند الإمام أحمد وسائر أئمة السنة كلامه تكلم به، وتكلم بالقرآن العربي بصوت نفسه، وكلم موسى بصوت نفسه الذي لا يماثل شيئًا من أصوات العباد‏.‏

/ ثم إذا قرأنا القرآن فإنما نقرؤه بأصواتنا المخلوقة التي لا تماثل صوت الرب، فالقرآن الذي نقرؤه هو كلام الله مبلغًا عنه لا مسموعا منه، وإنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا، الكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع العقل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏، وقال الإمام أحمد في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن‏)‏ قال‏:‏ يزينه ويحسنه بصوته، كما قال‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏‏.‏

فنص أحمد على ما جاء به الكتاب والسنة أنا نقرأ القرآن بأصواتنا، والقرآن كلام الله كله، لفظه ومعناه، سمعه جبريل من الله وبلَّغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وسمعه محمد منه، وبلَّغه محمد إلى الخلق، والخلق يبلغه بعضهم إلى بعض، ويسمعه بعضهم من بعض، ومعلوم أنهم إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فبلغوه عنه، كما قال‏:‏ ‏(‏نَضَّرَ الله امرأ سمع منا حديثًا فبلَّغه كما سمعه‏)‏ ‏[‏كلهم عن عبد الله بن مسعود‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏نَضَّر‏)‏‏:‏ من النضارة، وهي حسن الوجه والبريق وإنما أراد‏:‏ حسن الله خُلُقه وقدره‏]‏، فهم سمعوا اللفظ من الرسول بصوت نفسه بالحروف التي تكلم بها وبلغوا لفظه بأصوات أنفسهم، وقد علم الفرق بين من يروي الحديث بالمعنى لا باللفظ، واللفظ المبلغ هو لفظ الرسول وهو كلام الرسول؛ فإنه كان صوت / المبلغ ليس صوت الرسول، وليس ما قام بالرسول من الصفات والأعراض فارقته وما قامت بغيره، بل ولا تقوم الصفة والعرض بغير محله، وإذا كان هذا معقولا في صفات المخلوقين فصفات الخالق أولى بكل صفة كمال، وأبعد عن كل صفة نقص، والتباين الذي بين صفة الخالق والمخلوق أعظم من التباين الذي بين صفة مخلوق ومخلوق، وامتناع الاتحاد والحلول بالذات للخالق وصفاته في المخلوق أعظم من الاتحاد والحلول بالذات للمخلوق وصفاته في المخلوق، وهذه جمل قد بسطت في مواضع أخر‏.‏

هذا مع أن احتجاج الجهمية والمعتزلة بأن كلام المخلوق بقوله‏:‏ ‏{‏يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏12‏]‏ مثل كلام الخالق، غلط باتفاق الناس حتى عندهم؛ فإن الذين يقولون‏:‏ هو مخلوق يقولون‏:‏ إنه خلقه في بعض الأجسام، إما الهواء أو غيره، كما يقولون‏:‏ إنه خلق الكلام في نفس الشجرة فسمعه موسى‏.‏

ومعلوم أن تلك الحروف والأصوات التي خلقها الله ليست مماثلة لما يسمع من العبد، وتلك هي كلام الله المسموع منه عندهم، كما أن أهل السنة يقولون‏:‏ الذي تكلم هو الله بمشيئته، وليس ذلك مماثلا لصوت العبد‏.‏

/وأما القائلون بقدم الكلام المعين، سواء كان معنى أو حروفًا أو أصواتا، فيقولون‏:‏ خلق لموسى إدراكا أدرك به ذلك القديم، وبكل حال فكلام المتكلم إذا سمع من المبلغ عنه غير ما قام بنفس المتكلم المنشئ فكيف ‏[‏لا‏]‏ يكون ذلك في كلام الله تعالى‏؟‏‏.‏

فيجب على الإنسان في ‏[‏مسألة الكلام‏]‏ أن يتحرى أصلين‏:‏

أحدهما‏:‏ تكلم الله بالقرآن وغيره، هل تكلم به بمشيئته وقدرته أم لا‏؟‏ وهل تكلم بكلام قائم بذاته أم خلقه في غيره‏؟‏

والثاني‏:‏ تبليغ ذلك الكلام عن الله، وأنه ليس مما يتصف به الثاني، وإن كان المقصود بالتبليغ الكلام المبلغ، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

وأيضا، فهذان المتنازعان إذا قال أحدهما‏:‏ إنها قديمة، وليس لها مبتدأ، وشكلها ونقطها محدث، وقال الآخر‏:‏ إنها ليست بكلام الله وأنها مخلوقة بشكلها ونقطها، قد يفهم من هذا أنهما أرادا بالحروف الحروف المكتوبة دون المنطوقة، والحروف المكتوبة قد تنازع الناس في شكلها ونقطها؛ فإن الصحابة لما كتبوا المصاحف كتبوها غير مشكولة ولا منقوطة؛ لأنهم إنما كانوا يعتمدون في القرآن على حفظه في صدورهم لا على المصاحف، وهو منقول بالتواتر محفوظ في الصدور، ولو عدمت المصاحف لم يكن للمسلمين بها حاجة؛ فإن المسلمين ليسوا كأهل الكتاب الذين يعتمدون على الكتب التي تقبل التغير، والله أنزل القرآن على محمد فتلقاه تلقيًا وحفظه في قلبه، لم ينزله مكتوبا كالتوراة، / وأنزله منجما مفرقا ليحفظ فلا يحتاج إلى كتاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏32‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏106‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ‏}‏ الآية ‏[‏طه‏:‏114‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ الآية ‏[‏القيامة‏:‏17‏]‏‏.‏

وفي الصحيح عن ابن عباس قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه، فقال ابن عباس‏:‏ أنا أحركهما لك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى‏:‏‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ قال‏:‏ جمعه في صدرك ثم تقرأه ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ قال‏:‏ فاستمع له وأنصت ‏{‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏16ـ 19‏]‏ أي‏:‏ نبينه بلسانك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه؛ فلهذا لم تكن الصحابة ينقطون المصاحف ويشكلونها، وأيضا كانوا عربًا لا يلحنون؛ فلم يحتاجوا إلى تقييدها بالنقط، وكان في اللفظ الواحد قراءتان يقرأ بالياء والتاء مثل‏:‏ يعملون وتعملون‏.‏ فلم يقيدوه بأحدهما ليمنعوه من الأخرى‏.‏

ثم إنه في زمن التابعين لما حدث اللحن صار بعض التابعين يشكل المصاحف وينقطها، وكانوا يعملون ذلك بالحمرة، ويعملون الفتح بنقطة حمراء فوق الحرف، والكسرة بنقطة حمراء تحته، والضمة بنقطة حمراء / أمامه، ثم مدوا النقطة وصاروا يعملون الشدة بقولك‏:‏ ‏[‏شد‏]‏، ويعملون المدة بقولك‏:‏‏[‏مد‏]‏، وجعلوا علامة الهمزة تشبه العين؛ لأن الهمزة أخت العين، ثم خففوا ذلك حتى صارت علامة الشدة مثل رأس السين، وعلامة المدة مختصرة كما يختصر أهل الديوان ألفاظ العدد وغير ذلك، وكما يختصر المحدثون ‏[‏أخبرنا وحدثنا‏]‏، فيكتبون أول اللفظ وآخره على شكل ‏[‏أنا‏]‏ وعلى شكل ‏[‏ثنا‏]‏‏.‏

وتنازع العلماء، هل يكره تشكيل المصاحف وتنقيطها‏؟‏ على قولين معروفين، وهما روايتان عن الإمام أحمد، لكن لا نزاع بينهم أن المصحف إذا شكل ونقط وجب احترام الشكل والنقط، كما يجب احترام الحرف، ولا تنازع بينهم أن مداد النقطة والشكل مخلوق، كما أن مداد الحرف مخلوق، ولا نزاع بينهم أن الشكل يدل على الإعراب، والنقط يدل على الحروف، وأن الإعراب من تمام الكلام العربي‏.‏

ويروى عن أبي بكر وعمر أنهما قالا‏:‏ حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، ولا ريب أن النقطة والشكلة بمجردهما لا حكم لهما ولا حرمة ولا ينبغي أن يجرد الكلام فيهما، ولا ريب أن إعراب القرآن العربي من تمامه، ويجب الاعتناء بإعرابه، والشكل يبين إعرابه كما تبين الحروف المكتوبة للحرف المنطوق، كذلك يبين الشكل المكتوب للإعراب المنطوق‏.‏

/ فهذه المسائل إذا تصورها الناس على وجهها تصورًا تامًا ظهر لهم الصواب، وقَلَّت الأهواء والعصبيات، وعرفوا موارد النزاع، فمن تبين له الحق في شيء من ذلك اتبعه، ومن خفي عليه توقف حتى يبينه الله له، وينبغي له أن يستعين على ذلك بدعاء الله، ومن أحسن ذلك ما رواه مسلم ـ في صحيحه ـ عن عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول‏:‏ ‏(‏اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏)‏‏.‏

وقول القائل الآخر‏:‏ ‏[‏كلامه كتب بها‏]‏ ‏:‏ يقتضي أنه أراد بالحروف ما يتناول المنطوق والمكتوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول‏:‏ الَم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف‏)‏، قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ فهنا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف نفس المداد وشكل المداد، وإنما أراد الحرف المنطوق، وفي مراده بالحرف قولان‏:‏ قيل‏:‏ هذا اللفظ المفرد‏.‏ وقيل‏:‏ أراد صلى الله عليه وسلم بالحرف الاسم، كما قال‏:‏ ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف‏.‏

ولفظ ‏[‏الحرف‏]‏ و ‏[‏الكلمة‏]‏ له في لغة العرب التي كان النبي / صلى الله عليه وسلم يتكلم بها معنى، وله في اصطلاح النحاة معنى‏.‏ فالكلمة في لغتهم هي الجملة التامة، الجملة الاسمية أو الفعلية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتفق على صحته ـ‏:‏ ‏(‏كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن‏:‏ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لَبِيد‏:‏ ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب له بها سخطه إلى يوم القيامة‏)‏، وقال لأم المؤمنين‏:‏ ‏(‏لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن‏:‏ سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته‏)‏، ومنه قوله تعالى‏:‏‏{‏ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏26‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏64‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏28‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏40‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏)‏ ونظائره كثيرة‏.‏

ولا يوجد قط في الكتاب والسنة وكلام العرب لفظ ‏[‏الكلمة‏]‏ إلا / والمراد به الجملة التامة‏.‏ فكثير من النحاة أو أكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن اصطلاحهم في مسمى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف هو لغة العرب، والفاضل منهم يقول‏:‏

وكلمة بها كلام قد يؤم

ويقولون‏:‏ العرب قد تستعمل الكلمة في الجملة التامة وتستعملها في المفرد، وهذا غلط لا يوجد قط في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة‏.‏

ومثل هذا اصطلاح المتكلمين على أن القديم هو ما لا أول لوجوده أو ما لم يسبقه عدم، ثم يقول بعضهم‏:‏ وقد يستعمل القديم في المتقدم على غيره، سواء كان أزليًا أو لم يكن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏39‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏11‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏95‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏75،76‏]‏، وتخصيص القديم بالأول عرف اصطلاحي، ولا ريب أنه أولى بالقدم في لغة العرب؛ ولهذا كان لفظ المحدث في لغة العرب بإزاء القديم، قال تعالى‏:‏‏{‏مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏2‏]‏، وهذا يقتضى أن الذي نزل قبله ليس بمحدث بل متقدم‏.‏ وهذا موافق للغة العرب التي نزل بها القرآن، / ونظير هذا لفظ ‏[‏القضاء‏]‏، فإنه في كلام الله وكلام الرسول المراد به إتمام العبادة، وإن كان ذلك في وقتها، كما قال تعالى‏:‏‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏200‏]‏، ثم اصطلح طائفة من الفقهاء فجعلوا لفظ ‏[‏القضاء‏]‏ مختصًا بفعلها في غير وقتها، ولفظ ‏[‏الأداء‏]‏ مختصًا بما يفعل في الوقت، وهذا التفريق لا يعرف قط في كلام الرسول، ثم يقولون‏:‏ قد يستعمل لفظ القضاء في الأداء، فيجعلون اللغة التي نزل القرآن بها من النادر‏.‏

ولهذا يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فما أدركتم فَصَلُّوا، وما فاتكم فاقضوا‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فأتموا‏)‏ فيظنون أن بين اللفظين خلافا وليس الأمر كذلك، بل قوله‏:‏ ‏[‏فاقضوا‏]‏ كقوله‏:‏ ‏[‏فأتموا‏]‏ لم يرد بأحدهما الفعل بعد الوقت، بل لا يوجد في كلام الشارع أمر بالعبادة في غير وقتها، لكن الوقت وقتان‏:‏ وقت عام ووقت خاص لأهل الأعذار؛ كالنائم والناسي إذا صليا بعد الاستيقاظ والذكر، فإنما صليا في الوقت الذي أمر الله به؛ فإن هذا ليس وقتا في حق غيرهما‏.‏

ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله، أن ينشأ الرجل / على اصطلاح حادث، فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها‏.‏

وما ذكر في مسمى ‏[‏الكلام‏]‏ ما ذكره سيبويه في كتابه عن العرب، فقال‏:‏ واعلم ‏[‏أن‏]‏ في كلام العرب إنما وقعت على أن تحكى وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما قولا؛ وإلا فلا يوجد قط لفظ الكلام والكلمة إلا للجملة التامة في كلام العرب، ولفظ الحرف يراد به الاسم والفعل وحروف المعاني واسم حروف الهجاء؛ ولهذا سأل الخليل أصحابه‏:‏ كيف تنطقون بالزاي من زيد‏؟‏ فقالوا‏:‏ زاي، فقال نطقتم بالاسم، وإنما الحرف زه؛ فبين الخليل أن هذه التي تسمى حروف الهجاء هي أسماء‏.‏

وكثيرًا ما يوجد في كلام المتقدمين هذا ‏[‏حرف من الغريب‏]‏ يعبرون بذلك عن الاسم التام، فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فله بكل حرف‏)‏ مثله بقوله‏:‏ ‏(‏ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف‏)‏‏.‏ وعلى نهج ذلك؛ وذلك حرف، والكتاب حرف، ونحو ذلك‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ذلك أحرف والكتاب أحرف، وروى ذلك مفسرًا في بعض الطرق‏.‏

والنحاة اصطلحوا اصطلاحًا خاصًا، فجعلوا لفظ ‏[‏الكلمة‏]‏ يراد / به الاسم أو الفعل أو الحرف الذي هو من حروف المعاني؛ لأن سيبويه قال في أول كتابه‏:‏ الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل‏.‏ فجعل هذا حرفًا خاصًا، وهو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل؛ لأن سيبويه كان حديث العهد بلغة العرب، وقد عرف أنهم يسمون الاسم أو الفعل حرفًا، فقيد كلامه بأن قال‏:‏ وقسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وأراد سيبويه أن الكلام ينقسم إلى ذلك قسمة الكل إلى أجزائه لا قسمة الكلى إلى جزئياته كما يقول الفقهاء بأن القسمة كما يقسم العقار والمنقول بين الورثة، فيعطى هؤلاء قسم غير قسم هؤلاء، كذلك الكلام هو مؤلف من الأسماء والأفعال وحروف المعاني فهو مقسوم إليها وهذا التقسيم غير تقسيم الجنس إلى أنواعه، كما يقال‏:‏ الاسم ينقسم إلى معرب ومبني‏.‏

وجاء الجزولي ‏[‏هو أبو موسى عيسى بن عبد العزيز بن يللبخت الجزولي المراكشي، من علماء العربية، ولي خطابة مراكش، من كتبه‏:‏ ‏[‏الجزولية‏]‏ رسالة في النحو، و ‏[‏شرح قصيدة‏:‏ بانت سعاد‏]‏، ولد سنة 504هـ، وتوفي بمراكش سنة 607.‏ وغيره، فاعترضوا على النحاة في هذا ولم يفهموا كلامهم، فقالوا‏:‏ كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه، فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقسامًا له، وأرادوا بذلك الاعتراض على قول الزجاج‏:‏ الكلام اسم وفعل وحرف‏.‏والذي ذكره الزجاج هو الذي ذكره سيبويه وسائر أئمة النحاة، وأرادوا بذلك القسمة الأولى المعروفة، وهي قسمة الأمور الموجودة إلى أجزائها كما يقسم العقار والمال، ولم يريدوا بذلك قسمة الكليات ـ التي لا توجد كليات / إلا في الذهن ـ كقسمة الحيوان إلى ناطق وبهيم، وقسمة الاسم إلى المعرب والمبنى؛ فإن المقسم هنا هـو معنـى عقلى كلي لا يكون كليًا إلا في الذهن‏.‏

 فصــل

ولفظ ‏[‏الحرف‏]‏ يراد به حروف المعاني التي هي قسيمة الأسماء والأفعال، مثل حروف الجر والجزم، وحرفي التنفيس، والحروف المشبهة للأفعال مثل‏:‏ ‏[‏إنَّ وأخواتها‏]‏، وهذه الحروف لها أقسام معروفة في كتب العربية، كما يقسمونها بحسب الإعراب إلى ما يختص بالأسماء وإلى ما يختص بالأفعال، ويقولون‏:‏ ما اختص بأحد النوعين ولم يكن كالجزء منه كان عاملاً كما تعمل حروف الجر، وإن وأخواتها في الأسماء، وكما تعمل النواصب والجوازم في الأفعال، بخلاف حرف التعريف وحرفي التنفيس؛ كالسين وسوف فإنهما لا يعملان لأنهما كالجزء من الكلمة، ويقولون‏:‏ كان القياس في ‏[‏ما‏]‏ أنها لا تعمل؛ لأنها تدخل على الجمل الاسمية والفعلية، ولكن أهل الحجاز أعملوها لمشابهتها لـ ‏[‏ليس‏]‏، وبلغتهم جاء القرآن في قوله‏:‏‏{‏مَا هَـذَا بَشَرًا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏31‏]‏ ‏{‏مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏2‏]‏‏.‏

/ويقسمون الحروف باعتبار معانيها إلى حروف استفهام، وحروف نفي، وحروف تحضيض وغير ذلك، ويقسمونها باعتبار بنيتها كما تقسم الأفعال والأسماء إلى مفرد وثنائي وثلاثي ورباعي وخماسي‏.‏فاسم الحرف هنا منقول عن اللغة إلي عرف النحاة بالتخصيص، وإلا فلفظ الحرف في اللغة يتناول الأسماء والحروف والأفعال، وحروف الهجاء تسمى حروفًا وهي أسماء كالحروف المذكورة في أوائل السور؛ لأن مسماها هو الحرف الذي هو حرف الكلمة‏.‏

وتقسم تقسيمًا آخر إلى حروف حَلْقِيَّة وشَفَهِيَّة، والمذكورة في أوائل السور في القرآن هي نصف الحروف، واشتملت من كل صنف على أشرف نصفيه‏:‏ على نصف الحلقية، والشفهية، والمطبقة، والمصمتة، وغير ذلك من أجناس الحروف‏.‏

فإن لفظ ‏[‏الحرف‏]‏ أصله في اللغة هو‏:‏ الحد والطرف، كما يقال‏:‏ حروف الرغيف وحرف الجبل‏.‏ قال الجوهري‏:‏ حرف كل شيء طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏11‏]‏، فإن طرف الشيء إذا كان الإنسان عليه لم يكن مستقرًا؛ فلهذا كان من عَبَدَ اللَّهَ على السَّرَّاء دون الضراء عابدًا له على حرف؛ تارة بظهره وتارة ينقلب /على وجهه، كالواقف على حرف الجبل، فسميت حروف الكلام حروفًا لأنها طرف الكلام وحده ومنتهاه؛إذ كان مبدأ الكلام من نفس المتكلم، ومنتهاه حده وحرفه القائم بشفتيه ولسانه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 8،9‏]‏ فلفظ الحرف يراد به هذا وهذا وهذا‏.‏

ثم إذا كتب الكلام في المصحف سَمُّوا ذلك حروفًا، فيراد بالحرف الشكل المخصوص، ولكل أمة شكل مخصوص هي خطوطهم التي يكتبون بها كلامهم، ويراد به المادة، ويراد به مجموعهما، وهذه الحروف المكتوبة تطابق الحروف المنطوقة وتبينها وتدل عليها فسميت بأسمائها؛ إذ كان الإنسان يكتب اللفظ بقلمه؛ ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مّا لّمً يّعًلّمً‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏1ـ 5‏]‏، فبين ـ سبحانه ـ في أول ما أنزله أنه ـ سبحانه ـ هو الخالق الهادي الذي خلق فَسَوَّى، والذي قَدَّرَ فهدى، كما قال موسى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏50‏]‏، فالخلق يتناول كل ما سواه من المخلوقات ثم خص الإنسان فقال‏:‏‏{‏خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏، ثم ذكر أنه علم؛ فإن الهدى والتعليم هو كمال المخلوقات‏.‏

والعلم له ثلاث مراتب‏:‏ علم بالجنَان، وعبارة باللسان، وخط / بالبنان؛ ولهذا قيل‏:‏ إن لكل شيء أربع وجودات‏:‏ وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي‏.‏ وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، واللسان، والبنان، لكن الوجود العيني هو وجود الموجودات في أنفسها والله خالق كل شيء، وأما الذهني الجناني فهو العلم بها الذي في القلوب، والعبارة عن ذلك هو اللساني، وكتابة ذلك هو الرسمي البناني، وتعليم الخط يستلزم تعليم العبارة واللفظ، وذلك يستلزم تعليم العلم فقال‏:‏ ‏{‏عَلَّمَ بِالْقَلَمِ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏4‏]‏ لأن التعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاث، وأطلق التعليم، ثم خص، فقال‏:‏ ‏{‏عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏‏.‏

وقد تنازع الناس في وجود كل شيء، هل هو عين ماهيته أم لا‏؟‏ وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبين أن الصواب من ذلك أنه قد يراد بالوجود ما هو ثابت في الأعيان، وبالماهية ما يتصور في الأذهان، فعلى هذا فوجود الموجودات الثابت في الأعيان ليس هو ماهيتها المتصورة في الأذهان، لكن الله خلق الموجود الثابت في الأعيان وعلم الماهيات المتصورة في الأذهان، كما أنزل بيان ذلك في أول سورة أنزلها من القرآن، وقد يراد بالوجود والماهية كلاهما؛ ما هو متحقق في الأعيان، وما هو متحقق في الأذهان، فإذا أريد بهذا وهذا ما هو متحقق في الأعيان أو ما هو متصور في الأذهان، فليس هما في الأعيان اثنان، بل هذا هو هذا‏.‏ وكذلك الذهن إذا تصور شيئًا فتلك الصورة / هي المثال الذي تصورها، وذلك هو وجودها الذهني الذي تتصوره الأذهان، فهذا فصل الخطاب في هذا الباب‏.‏

ومن تدبر هذه المسائل وأمثالها تبين له أن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏40‏]‏

وقد بسط الكلام على أصول هذه المسائل وتفاصيلها في مواضع أخرى؛ فإن الناس كثر نزاعهم فيها حتى قيل‏:‏ ‏[‏مسألة الكلام حيرت عقول الأنام‏]‏‏.‏ ولكن سؤال هذين لا يحتمل البسط الكثير؛ فإنهما سألا بحسب ما سمعاه واعتقداه وتصوراه، فإذا عرف السائل أصل مسألته ولوازمها وما فيها من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، تبين له أن من الخلق من تكلم في مثل هذه الأسماء بالنفي والإثبات من غير تفصيل، فلابد له أن يقابله آخر بمثل إطلاقه‏.‏

ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان‏:‏ نوع جاء به الكتاب والسنة، فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله، أو نفاه حق؛ فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والألفاظ / الشرعية لها حرمة‏.‏ ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني؛ فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر، ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏11‏]‏‏.‏

وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها، فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به، وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره‏.‏

ثم التعبير عن تلك المعاني، إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها؛ بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإن كثيرًا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة، ومعان مشتبهة، حتي تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره، فضلا عن أن يعرف دليله، ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئًا بل يكون في قوله نوع من الصواب، وقد يكون هذا مصيبًا من وجه وهذا مصيبًا من وجه، وقد يكون الصواب في قول ثالث‏.‏

/ وكثير من الكتب المصنفة في ‏[‏أصول علوم الدين‏]‏ وغيرها، تجد الرجل المصنف فيها في ‏[‏المسألة العظيمة‏]‏ كمسألة القرآن والرؤية، والصفات والمعاد، وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة، والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب، بل ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به، وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة، وهو مما نهيت الأمة عنه، كما في قوله تعالى‏:‏‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏105، 106‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ تَبْيَضُّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدعة والفُرْقَة‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏159‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏176‏]‏‏.‏ وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القَدَر، وهذا يقول‏:‏ ألم يقل الله كذا‏؟‏ وهذا يقول‏:‏ ألم يقل الله كذا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أبهذا أمرتم‏؟‏ أم إلى هذا دعيتم‏؟‏ إنما هلك من كان قبلكم بهذا؛ أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه‏)‏‏.‏ ومما أمر الناس به‏:‏ أن يعملوا بمحكم القرآن، ويؤمنوا بمتشابهه‏.‏

/ قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ وقد كتبت في أصول هذه المسائل قواعد متعددة وأصول كثيرة، ولكن هذا الجواب كتب وصاحبه مستوفز في قعدة واحدة، والله تعالى يهدينا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين‏.‏